ضدّ الصدمة... نحو علم نفس تحرّريّ | حوار مع سماح جبر

د. سماح جبر

 

* إن لم يردّ على العنف العاموديّ يتحوّل إلى عنف أفقي. 

* في فلسطين ثمّة طلب كبير على الطبّ النفسيّ يقابله شحّ في الموارد. 

* لقد أتقنّا فنّ تعمية التوجّهات الحقيقيّة عندما يتعلّق الأمر بالمساواة الجندريّة. 

* صدمتنا ليست صدمة الجنديّ العائد من العراق، بل هي تاريخيّة جمعيّة متكرّرة. 

* ترتبط الوصمة المجتمعيّة المرتبطة بالعلاج النفسيّ بالخوف الفطريّ من ’الجنون‘. 

 

تعمل د. سماح جبر، المختصّة في الطبّ النفسيّ، في كلّ من القطاع العامّ والخاصّ في القدس المحتلّة والضفّة الغربيّة. إذ تشغل حاليًّا منصب رئيسة وحدة الصحّة النفسيّة في وزارة الصحّة الفلسطينيّة، وقد سبق لها أن درَّست فصولًا دراسيّة في عدد من الجامعات الفلسطينيّة، كما تعمل أستاذًا مساعدًا لـ «الطبّ النفسيّ والعلوم السلوكيّة» في «جامعة جورج واشنطن».

ارتبطت د. جبر بالعديد من المنظّمات الدوليّة كمستشارة لتطوير البرامج وتخطيط السياسات وتنفيذ البرامج، إذ تشمل مجالات اهتمامها حقوق السجناء والوصم المجتمعيّ والتحليل النفسيّ وصدمات الطفولة ودمج الصحّة النفسيّة مع الصحّة العامّة. كما كتبت من قبل في منابر إعلاميّة وأكاديميّة متنوّعة في حقول الصحّة العقليّة وحقوق الإنسان.

صدر لها في عام 2017 كتاب: «Beyond Frontlines – ما وراء الجبهات»، والّذي ظهر بالفرنسيّة والإيطاليّة، وكذلك كتاب «Sumud, resistere all’ oppressione» بالإيطاليّة عام 2021.

في هذا الحوار الّذي تجريه فُسْحَة – ثقافيّة فلسطينيّة مع د. جبر، نتحدّث معها عن واقع الصحّة النفسيّة في فلسطين، عن الصدمات النفسيّة، وعن العنف المجتمعيّ والعنف الاستعماريّ وكيف ينعكسان على السلوك النفسيّ للأفراد وما يتولّد عنهما من صفات مجتمعيّة وأمراض نفسيّة.

 

فُسْحَة: لنبدأ بالحديث عن مجال اختصاصك في حقل الصحّة النفسيّة؟

سماح: مجال اختصاصي عريض جدًّا، فثمّة موقع عملي الرسميّ في وزارة الصحّة الفلسطينيّة، والّذي يقع في نطاق صناعة سياسات الصحّة النفسيّة، مثل العمل مؤخّرًا على الدفع نحو إنشاء استراتيجيّة وطنيّة للصحّة النفسيّة في فلسطين، وأنجزنا من ذلك حتّى الآن الخطّة الوطنيّة للحدّ والوقاية من الانتحار، كما نعمل أيضًا على قانون للصحّة النفسيّة، وتطوير حقوق المرضى والأشخاص ذوي الإعاقة في مستشفى الصحّة النفسيّة وخارجه، ذلك ما نسمّيه بصناعة السياسات.

إضافة إلى ذلك ثمّة الطبّ النفسيّ السريريّ، حيث أعالج مرضى من أجيال مختلفة وبمشكلات مختلفة تتراوح بين ما يسمّى بالاضطرابات النفسيّة الشائعة Common Mental Disorders، والّتي تتعلّق بالعلاقات وضغوطات العمل، وبين الاضطرابات النفسيّة الشديدة مثل الفصام؛ إذ ثمّة في الطبّ النفسيّ ما يزيد عن 300 مرض منها 70% تعتبر أمراضًا شائعة لا ينتبه الناس لها كثيرًا.

لماذا أعمل في هذا المجال العريض؟ بسبب قلّة المتخصّصين في حقل الصحّة النفسيّة في فلسطين، وقد كنت أعرف أنّ المهامّ الّتي أريد إنجازها عريضة جدًّا، لذلك تخصّصت بشكل متوسّع في الطبّ النفسيّ، فأنهيت شهادتي في الطبّ النفسيّ ومن ثمّ أمضيت عامًا في دراسة العلاج السلوكيّ المعرفيّ وبعد ذلك قضيت ثلاث سنوات في «الكلّيّة الإسرائيليّة للتحليل النفسيّ»، وعملت على توسيع معارفي في العلاج النفسيّ استعدادًا للدور الّذي شعرت أنّني سأؤدّيه. ذلك أنّ فلسطين بلد يتطلّب خبرة مهنيّة خاصّة؛ فهي بلد يعاني سكّانه من الصدمة الجمعيّة والفرديّة وثمّة طلب كبير على الطبّ النفسيّ مقابل موارده القليلة، وقد كتبت من قبل عن هذا الموضوع، ما دفع في اتّجاه استدعائي من قبل مؤسّسات عالميّة تشتغل في مجال الصحّة النفسيّة مثل «منظّمة الصحّة العالميّة» و«أطبّاء العالم» و«أطبّاء بلا حدود» و«مكتب الأمم المتّحدة للجريمة والمخدّرات»، حتّى نعمل على تدريب الطواقم الطبّيّة في منطقة الشرق الأوسط على بعض أدوات العلاج النفسيّ في البلدان الفقيرة والمنكوبة.

 

فُسْحَة: هل ثمّة خاصّيّات لممارسة العلاج النفسيّ في فلسطين؟

سماح: بالطبع هناك خاصّيّة، وهي الاضطهاد المزمن من قوّة استعماريّة، ولكن علينا أن لا ننسى أيضًا المجتمع ببناه الاجتماعيّة والسياسيّة المختلفة الّتي عملت ولوقت طويل على جعل التحرّر من الاستعمار أولويّة على حرّيّات أخرى مثل حرّيّة المرأة أو حقوق الطفل والأقلّيّات. ثمّة اضطهاد طويل المدى متعدّد ومتقاطع البنى. أمّا  الخاصّيّة الأخرى فهي خلق العنف السياسيّ لعدد كبير من الناس المصدومين Traumatized، إلّا أنّ هناك تعدّدًا في طبيعة الصدمات؛ ما بين الصدمات الفرديّة الّتي تتسبّب بها الإصابات الجسديّة أو السجن أو التعذيب، ودوائر الصدمة الّتي تبثّ شعورًا مجتمعيًّا جمعيًّا بالخوف؛ مثل الحروب الصهيونيّة على قطاع غزّة، أو قتل الصحافيّة الفلسطينيّة شيرين أبو عاقلة، أو عندما يهدم جيش الاستعمار بيتًا فلسطينيًّا ليعيد ذاكرة النكبة والقرى المهجّرة؛ فهي إذن سلسلة من دوائر الصدمة الّتي تُحدِثُها حالة العنف السياسيّ والاضطهاد الصهيونيّ الاستعماريّ المزمن.

صدمتنا ليست كتلك الّتي يكتبون عنها؛ فهي صدمة تاريخيّة وجمعيّة طويلة المدى ومتكرّرة، في حين أنّ الصدمة الشائعة والّتي كُرِّسَت كحالة دراسة نموذجيّة هي صدمة الجنديّ الّذي يقاتل في العراق أو فييتنام أو أفغانستان ومن ثمّ يعود إلى أمان بيته وهناك تطارده الذكريات فيشعر بالتهديد وهو يعيش آمنًا في بيته. لكن، في فلسطين ليس ثمّة مكان آمن؛ عندما يخشى شخص ما الخروج من أمان بيته إلى الخارج بسبب حالة العنف الاستعماريّ المزمن فذلك ليس سلوكًا مرضيًّا، عندما يخرج شخص من السجن ويخشى من اعتقاله مرّة أخرى فذلك ليس سلوكًا مرضيًّا. لقد رأيت في الخليل فتيات نِمْنَ وهنّ يرتدين حجابهنّ بعد أن اعتُقِلَتْ والدتهنّ ليلًا، فأصبحت الفتيات يشعرن أنّ جنود الاستعمار يمكن أن يقتحموا البيت في أيّ لحظة ممّا دفعهنّ لذلك التصرّف. لذا فإنّك عندما تدرك الظروف المحيطة بهذا السلوك ودوافعه ستفهم أنّه ليس سلوكًا مرضيًّا. 

هذه بعض الأمثلة الّتي تعبّر عن حالة الاضطهاد المزمن، والشعور الجمعيّ بالتهديد وبأنّ أرض فلسطين تنكمش من تحت أقدامنا. قد ساهمت في ذلك عمليّة التهشيم Fragmentation للمجتمع الفلسطينيّ وتجزئته لهويّات مختلفة بحقوق وبمخاوف مختلفة؛ فثمّة أهل القدس الّذين هم ليسوا مواطني أيّ مكان في العالم، وفلسطينيّو الأراضي المحتلّة عام 1948 الّذين صُبِغُوا بنظرة خاصّة ومحدّدة، والضفّة الغربيّة الخاضعة لسياسات أوسلو وقطاع غزّة المحاصر، هذا التهشيم قاد إلى تكسير النسيج الاجتماعيّ لينتج عن ذلك ظواهر غير مفهومة ولا مفحوصة ولا يُحكى عنها. عندما نقول إنّ إنسانًا ما تعرّض لصدمة نقول إنّ الخوف الّذي اختبره قد غيّر من طبيعة التوصيل العصبيّ في خلايا دماغه لفترة من الزمن، وكذلك المجتمع الّذي يتلقّى نسيجه المجتمعيّ الصدمات يتهتّك ليخلق شعبًا غير قادر على التواصل مع نفسه ومع الآخر، ولا يثق بنفسه ولا بالآخر ويسود فيه التنافس على الفتات والحسد والغيرة والعصبيّة الشرسة؛ هذه هي صفات الشعوب المضطهَدة وهي صفات ليست مبحوثة كفايةً، لكنّنا نشعر بها ونعاني من وطأتها ونراها في المؤسّسات والبيئة المحيطة بنا.

 

فُسْحَة: استفحلت الظواهر والسلوكيّات المجتمعيّة الّتي تتحدّثين عنها بعد عقد من السياسات النيوليبراليّة الاقتصاديّة المتوحّشة في الضفّة الغربيّة مثلًا...

سماح: لا شكّ أنّ لتلك السياسات آثارًا واضحة؛ فنحن نستثمر في الصحّة النفسيّة أقلّ من 1% من ميزانيّة قطاع الصحّة الّتي هي أصلًا أقلّ من 10% من ميزانيّة السلطة الفلسطينيّة، علمًا أنّ الطبّ النفسيّ يتحمّل 20% من العبء المرضيّ العامّ؛ فالإنسان المكتئب كثير التغيّب عن عمله ما يعني التأثير على جودة حياته وصحّته وإنتاجيّته ومساهمته في المجتمع، أي أنّ إهمال العلاج النفسيّ في أيّ مجتمع يؤدّي إلى تأخّره وتقوقعه على نفسه. في ظلّ هذا الواقع ثمّة نقص أيضًا في الخبرات المختصّة بالصحّة النفسيّة ويجب العمل على تطويرها.

يخبر الواقع الفلسطينيّ عن طبيعة الصدمة الّتي نعانيها، وكذلك عن طبيعة الطلب على الطبّ النفسيّ، خاصّة أنّنا نعيش في منطقة ذات دخل منخفض في ظلّ شحّ الموارد المخصّصة للطبّ النفسيّ، والتوجّه الرسميّ لاعتبار الطبّ النفسيّ من الكماليّات وليس جزءًا من الصحّة العامّة، أو هدرًا للأموال على اعتبار أنّ المرضى النفسيّين غير قابلين للعلاج.  

ثمّة مسألة أخرى ليست مبحوثة بشكل كاف؛ نعرف أنّ من بين آليّات الاضطهاد الاستعماريّة آليّات نفسيّة استعماريّة استُخْدِمَت على الفلسطينيّين، ونعرف أنّ الاستعمار في حدّ ذاته يُنْتِجُ العديد من الأمراض النفسيّة، وأعتقد أنّ من الممكن لنا إعادة التفكير بهذه الآليّات ودحضها من خلال امتلاك المعرفة عنها وخلق استجابة وردّة فعل مناسبة لها لتفكيكها، وهذا الاهتمام هو ما نسمّيه بـ ’علم النفس التحرّريّ‘، الّذي أعتقد بضرورة توسعته والاضطلاع به وممارسته في فلسطين. تعمل «الشبكة الفلسطينيّة العالميّة للصحّة النفسيّة» مع أخوات لها في أماكن أخرى في العالم في هذا المجال، ونرغب في توسعة جهودنا ضمن عمل الشبكة، وأتمنّى مستقبلًا أن أمتلك مزيدًا من الوقت للعمل عليه.

 

فُسْحَة: لو أردنا الحديث عن علم النفس التحرّريّ في سياق ظاهرة العنف المجتمعيّ، الرمزيّ منه والمادّيّ، من العنف الجندريّ وحتّى العنف المجتمعيّ المنتشر في الأراضي المحتلّة عام 1948 والضفّة الغربيّة. يفسّر البعض هذه الظواهر على أنّها وليدة للبنية الاستعماريّة، بوصفها استجابة عكسيّة للعنف الاستعماريّ، هل توافقين على ذلك؟

سماح: هذه الظواهر موجودة، وعلى الرغم من الإجماع على رفضها فنحن لا نملك الأدوات اللازمة لمعالجتها. ثمّة قاعدة قديمة في علم الاجتماع تقول إنّ العنف العاموديّ إذا لم يردّ عليه يتحوّل إلى عنف أفقيّ؛ يبدأ الشخص بالبحث عن ضحيّة أسهل من الشخص المضطهِد، وثمّة ما يسمّى في علم النفس بالاستبدال Displacement، ما يعني توجيه الغضب إلى شخص آخر أقلّ تهديدًا من الّذي كان مصدرًا للغضب، مثل الرجل الّذي يضربه الجنديّ فيعود ليصرخ على زوجته. كذلك يعلّمنا علم النفس ظاهرة التماهي مع المعتدي، فنجد البعض يقلّد المستعمِر في التصرّف والحديث ولغة الجسد والأفعال، وهم يفعلون ذلك لافتراض خاطئ أنّ تشبّههم بالمستعمِر يجعلهم أقلّ عرضة للإيذاء الواقع على المستعمَر. 

لكنّ ما أريد التشديد عليه أنّ البنية الاستعماريّة ليست السبب الوحيد للعنف المجتمعيّ، بل ثمّة عوامل أخرى تغذّي العنف والاضطهاد المُسْتَدْخَل يمكن تفسيرها من خلال العلوم النفسيّة.

البعض يولد في بيئة تعاني من القلّة والإفقار المتعمّد للمجتمعات المضطهَدة، ومنه المادّيّ والأخلاقيّ والثقافيّ والتربويّ. ثمّة نخبة أقرب للسلطة الحاكمة وهي تتّسم بثلاث صفات أساسيّة؛ انعدام الكفاءة والشرعيّة والانتفاع من مواقعها السلطويّة. تتحدّث هذه النخبة باسم الأغلبيّة الساحقة دون امتلاكها للكفاءة أو الشرعيّة لفعل ذلك، ودون أن تمتلك الصفات الّتي على أساسها تبني تمثيلهم؛ فيمكن أن يكونوا أقلّ وطنيّة ومع ذلك يمثّلونك وطنيًّا، أو يكونوا أقلّ تديّنًا ويمثّلونك دينيًّا. أعتقد أنّ ثمّة استراتيجيّة سياسيّة وراء هذه الظاهرة، أي أنّها تنشأ بصورة ممنهجة، إذ هي حاضرة لدى كثير من الشعوب المضطهَدة، ولا أعتقد أنّنا نختلف في تكويننا عن بقيّة الشعوب؛ كلّ شعب فيه من التنوّع الاجتماعيّ ما لدى الشعوب الأخرى، والفرق بيننا وبينهم هو آليّة الفرز للنخب الحاكمة؛ فالمجتمعات الّتي تسود فيها العدالة والديمقراطيّة تستند إلى الانتخابات كآليّة لفرز النخب الممثّلة للعامّة، في حين تعاني المجتمعات المضطهَدة من البطش والإرهاق ومن آليّة فرز تعمل بصورة عكسيّة؛ إذ تتمكّن قلّة لا تمثّل الغالبيّة الساحقة وفاقدة للشرعيّة، لكنّها مخوّلة من قوى سياسيّة خارجيّة، من الهيمنة على المجتمع بأكمله وتمثيله.

إنّ تحوّل العنف العاموديّ لعنف أفقيّ يعدّ سببًا من أسباب العنف المجتمعيّ، لكن ثمّة سبب آخر يتمثّل في وجود آليّة حكم ممنهجة يراد منها قهر الإنسان؛ فصدمة الإنسان من ذوي القربى أشدّ عليه من صدمة السطوة الاستعماريّة، وأن تتعرّض الشعوب المستعمَرة لحكم أبناء جلدتها وإذلالهم وقسوتهم لهو أشدّ فتكًا بالإنسان وبالمجتع من القوّة المستعمِرة.

ثمّة آليّات أخرى تولّد العنف منها تذويت الدونيّة؛ فالشخصيّة الّتي توصف بالإرهابيّة أو المتخلّفة طوال عمرها، تستدخل ذلك وقد يتدنّى طموحها لتحسين الذات. وفي نفس هذه المجموعات الموصومة، سنجد أشخاصًا يرغبون بالخلاص الفرديّ على حساب الخلاص الجماعيّ، فتراهم يتقربون أكثر من السلطة، وما أن تتاح لهم الفرصة حتّى ينسلخوا عن مجتمعاتهم الأصليّة، وبذلك تنجو الذات بشكل فرديّ، وتذوّت في نفس الوقت شعورًا بالدونيّة الجمعيّة حيث يشعرون أنّ مجتمعهم الأصليّ مجتمع ضعيف ويودّون أن يقطعوا كافّة أشكال الانتماء إليه، بل ويصبحون أعداءًا لهذا المجتمع.

 

فُسْحَة: نشرنا في فُسْحَة – ثقافيّة فلسطينيّة مقالًا للكاتبة الليبيّة خيّرة مطاي بعنوان: «التحرّر القوميّ بوصفه فعلًا ثقافيًّا»، استعرضت فيه الكاتبة عديد الآليّات الاستعماريّة والإمبرياليّة الّتي سُخِّرت لخلق النخبة المتعلّمة الساعية إلى الخلاص الفرديّ على حساب الخلاص الجماعيّ في سياق الاستعمار الأوروبيّ لأفريقيا، وذلك من خلال التعليم التبشيريّ الّذي أنتج النخبة المستشرقة الّتي تحدّثت عنها. كما يتقاطع ما تحدّثت عنه من نشوء سلوك فردانيّ يتّصف بالغيرة والحسد والشكّ مع حوار سابق أجريناه مع الباحث أحمد سعدي عن آليّات الرقابة الصهيونيّة الّتي فرضت على المجتمع الفلسطينيّ في الأراضي المحتلّة عام 1948 خلال فترة الحكم العسكريّ منذ عام 1948 وحتّى عام 1969؛ وكان رأي سعدي أنّ الحكم العسكريّ عَمِلَ على خلق رغبة تنافسيّة بين الأفراد الفلسطينيّين وفي الوقت نفسه زراعة الشكّ في عقولهم الّذي تولّد عنه انعدام ثقة بالذات وبالآخر وتذويت لشعور جمعيّ بالدونيّة، وأعتقد أنّ ثمّة تقاطعًا بين هذه الأفكار وما تصفينه من مسبّبات للعنف في داخل المجتمع الفلسطينيّ، لكن هل يمكن الحديث عن هذا كلّه في سياق أمثلة، سواءً من الحالات الّتي عالجتها أو أمثلة مجتمعيّة؟

سماح: إن القاسم المشترك في الأشياء الّتي تحدّثت عنها هي أنّ القوّة تصنع الحقّ؛ ففي مرّة عالجت فتىً كان يلعب كرة القدم وحيدًا في الملعب، ثم جاء ثمانية فتية إلى الملعب وطلبوا منه الخروج على الفور، لكنّه كان مصرًّا على البقاء وقال لهم إنّه قد أتى قبلهم وكان يريد اللعب بكرته الجديدة الّتي اشتراها لتوّه، إلّا أنهم خرقوا كرته، مما أثار غضب الفتى ودفعه إلى التلويح بحزام بنطاله والتسبّب بجرح عين أحدهم. فُرِضَ على عائلة الفتى دفع عطوة بمبلغ كبير، ولامه أهله على خسارتهم المادّيّة والمعنويّة، في حين أنّ هذه القضيّة هي قضيّة تنمّر واضحة المعالم وتحوّل الولد إلى معتدٍ بعد أن كان صاحب حقّ بفعل القوّة والغلبة، وذلك ما يراه ويلاحظه الأطفال في المجتمع؛ غياب المحاسبة، ولدينا أمثلة كثيرة عن جرائم كبرى لا يحاسب عليها أحد ولا تصل إلى حلّ عادل.

دعني أطرح عليك مثالًا آخر، النساء اللّواتي يدخلن إلى مستشفيات، تعلّمت طواقمهم الطبّيّة بدعم من  مؤسّسات «الأمم المتّحدة» والمنظّمات العالميّة كيفيّة فحص العنف الناتج عن العنف الجندريّ، لكن، عند الممارسة يُنْسَى كلّ ما تعلّموه لأنّ الضحيّة قريبة لفلان أو فلان، وتدرك آنذاك أنّ ثمّة صعوبة في تطبيق الاتّفاقات المنصفة والعادلة المتعلّقة بحقوق النساء عندما يتعلّق الأمر بمعارضة إرادة الذكوريّة المجتمعيّة والعصبيّة السياسيّة والعائليّة. 

مثلًا، من بين مهامّي كتابة تقارير طبّيّة للنيابة والقضاء في بعض الجرائم ضدّ النساء، وفي إحدى القضايا كتبت تقارير عن ثلاث قضايا لنساء عُنِّفْنَ ومن بينهنّ اثنتان قُتِلتا. كانت النساء الثلاثة قد أُدْخِلن إلى بيوت آمنة، لكن في حالة كلّ منهنّ ظهر أحد المتنفّذين الرسميّين وغير الرسميّين ليقول إنّ السيّدة في حمايته مطالبًا بإخراجها من البيت الآمن، وكانت النتيجة موت اثنتين وتعرّض الثالثة لعنف مبرّح سبّب لها إعاقة دائمة من عائلتها.

ثمّة تحالف ما بين القوى السياسيّة وفي بعض الأحيان العائليّة، وتوحّش وتغوّل لبعض الأشخاص الّذين يمكن أن يُقْدِمُوا على ارتكاب فظائع عندما يتعلّق الأمر بالعنف المبنيّ على النوع الجندريّ Gender Based Violence. ففي كثير من قضايا العنف ضدّ النساء، وخاصّة قضايا القتل، كان المجرمون يخرجون دون محاكمة أو قضاء فترة عقوبة حقيقيّة؛ ومن ثمّ ندرك غياب المحاسبة والعدالة في هذا النوع من الجرائم.

 

فُسْحَة: يمكن القول إنّ الواقع يتجاوز مجرّد تدخّل أحد المتنفّذين في قضيّة من القضايا، للقول إنّ ثمّة تحالفًا بين السلطات الأبويّة والسياسيّة والاقتصاديّة الّذي يمكّن الذكور – بعض الذكور على الأقلّ – من ارتكاب الجرائم ضدّ النساء والشعور بالحصانة من المحاسبة. هذا ما يدفع إلى التساؤل عن مدى صعوبة ممارسة الحماية النفسيّة والمجتمعيّة في ظلّ تمكين البنى السلطويّة المجتمعيّة الذكور من إلغاء دور المعالج النفسيّ والطبيب والخروج بالضحيّة من مكان العلاج أو من البيت الآمن وإعادتها إلى البيئة العنيفة ذاتها، الّتي في كثير من الحالات يتّضح أنّها كانت قد أعيدَتْ إليها لتقتل على يد أفراد عائلتها؟ 

سماح: على مستوى صناعة السياسات، فثمّة العديد من الوثائق الرسميّة والأنظمة الخاصّة بالمساواة الجندريّة والاستجابة للعنف المجتمعيّ، لكن عند التطبيق يوجّه إلينا السؤال – من قبل العاملين في الصحّة – وأنا مَنْ يحميني؟ وأعرف جيّدًا أن لا أحد قادر على حمايتهم؛ فالشخص الّذي يريد أن يبلّغ عن حالة عنف مجتمعيّة يعرف أنّ الشرطة ستأخذ الضحيّة دون الحفاظ على سرّيّتها وستُعاد إلى أهلها مرّة أخرى وسينتقمون منها لما فعلته، ومن ثمّ فهناك حاجة إلى تقوية وتمكين منظومة الحماية ومنع التأثير السياسيّ الذكوريّ فيها والسماح له باختراقها.  

ثمّة فجوة كبيرة بين النظريّة والممارسة، ولسدّ هذه الفجوة لا بدّ من تغيير توجّهات المجتمع، وذلك ممكن من خلال التعليم الّذي يتألّف من ثلاثة أجزاء وهي المعرفة والمهارة والتوجّه، ونحن لدينا مشكلة في التوجّه وقد أتقنّا فنّ تعمية التوجّهات الحقيقيّة. فمثلًا، تجد في الوزارات والمؤسّسات الحكوميّة حضورًا نسائيًّا ضئيلًا، لكنّه أيضًا حضور لنساء خاضعات للهيمنة الذكوريّة وفي كثير من الأحيان يكنّ مشاركات صامتات في السياسات الذكوريّة، وبذلك تعطي مظهرًا زائفًا بالتمثيل الجندريّ المتساوي وحقيقة الأمر أنّ هذه تعمية على الهيمنة الذكوريّة في المؤسّسات الرسميّة.

 

فُسْحَة: هل تعتقدين أنّ غياب منظومة خاصّة للصحّة النفسيّة واعتماد المواطن على المؤسّسات العامّة يساعد في استمرار الخوف أو التردّد في التوجّه إلى العلاج النفسيّ، كما يساعد على الإبقاء على الوصمة الاجتماعيّة كما هي؟

سماح: أختلف تمامًا معك في ما يتعلّق بالمؤسّسات الصحّيّة العامّة؛ فليس تقديم خدمات العلاج النفسيّ في المؤسّسات العامّة هو ما ينتج الوصمة، إنّ الوصمة المرتبطة بالعلاج النفسيّ موجودة في كلّ مكان، ولا أعتقد أنّ هذا هو العامل الأبرز في تسببها في فلسطين، بل أعتقد أنّ للعقل أهمّيّة كبيرة مجتمعيًّا وثمّة خوف فطريّ من فقدان العقل و’الجنون‘. هذا الخوف ما ينتج الوصمة، وفي البلدان الإسلاميّة ثمّة مستويات إضافيّة تعقّد التعاطي مع بعض الاضطرابات النفسيّة إذا وُصِفَت بأنّها ليست مجرّد مرض بل أيضًا ’حرام‘، مثل الانتحار، والإدمان... إلخ.

الانتحار في المعتقد الدينيّ والإدمان والكثير من الأمور المتعلّقة بالجنسانيّة ليست مجرّد وصمة فحسب، وإنّ صبغ هذه الأحوال النفسيّة بأنّها ’حرام‘ لا يساعد الناس على البوح بها والإفصاح عنها والتمكّن من السعي إلى التشافي منها.

أعتقد أنّ إحدى الطرق الّتي قد تساعد في التخلّص من الوصمة وفي الوقت نفسه تمكّن من تقديم خدمة طبّيّة معقولة وممكنة مادّيًّا، تتمثّل في دمج الصحّة النفسيّة في المدارس والرعاية الطبّيّة الأوّليّة. إذ تستطيع المدارس أن تقدّم الخدمات الصحّيّة النفسيّة داخل المدارس نفسها دون تحويلات إلى عيادات خارجيّة، وذلك قد يساعد في التخفيف من الوصمة المرتبطة بالعلاج النفسيّ.

في المقابل، نجد أنّ الطبّ الخاصّ ذو تكلفة عالية، خاصّة أنّ العديد من الأفراد الّذين يعانون من مشاكل نفسيّة يعانون أيضًا من أحوال مادّيّة متردّيّة، وأيّ مبلغ يدفعونه سيكون مرتفعًا جدًّا بالنسبة إليهم، ولغاية توفير العلاج بطريقة عادلة للجميع فأنا أؤيّد انتشار خدمات الطبّ النفسيّ من خلال المؤسّسات الصحّيّة العامّة.

ثمّة في الضفّة الغربيّة 14 مركزًا وعيادة تتبع وزارة الصحّة الفلسطينيّة وتقدّم خدمات الطبّ النفسيّ مجّانًا وكذلك الدواء، لكنّ الناس لا تفضّل الذهاب إلى هذه المراكز لأنّها جزء من القطاع العامّ الّذي لا ينجح في كسب ثقة المواطنين في بعض الأحيان.

 

فُسْحَة: لكن، أليس ثمّة مخاوف من أن يؤدّي تقديم خدمات الصحّة النفسيّة من خلال مؤسّسات الصحّة العامّة إلى انتشار تعميمات في التعامل مع المرضى وأمراضهم وإهمال خصوصيّات حالاتهم/ نّ المرضيّة؟

سماح: كلّا، ذلك أصلًا لا يجب أن يحدث في أيّ ممارسة علاجيّة صحيحة، بل يجب الحفاظ على فرادة كلّ مريض؛ فعند الحديث عن الطبّ النفسيّ في المؤسّسات الصحّيّة العامّة والمدارس لا نعني التنازل عن جودة الخدمات المقدّمة. على خدمات الصحّة النفسيّة أن تكون ذات جودة عالية وأن تكون خيارًا مجّانيًّا بشكل دائم، فعدم وجودها لا يدفع ثمنه المريض فحسب، بل المجتمع بأكمله.

 

فُسْحَة: بدأت بالحديث عن استراتيجيّة الحدّ والوقاية من الانتحار في فلسطين، هل يمكن الحديث عن ذلك بتوسّع؟

سماح: أعتقد أنّ الأرقام الرسميّة لحالات الانتحار لا تعكس الحقيقة، بل هي قمّة الجبل الجليديّ، لأنّ ثمّة دائمًا رغبة مجتمعيّة في إخفاء الحقيقة عندما يتعلّق الأمر بالانتحار بسبب الوصمة والحرام وسطوة المجتمع، والإخفاء عمليّة تشترك فيها العائلة والشرطة والرأي العامّ، فتسجّل حالات الانتحار على أنّها غرق في البحر أو سقوط من علوّ أو حوادث سير ذاتيّة؛ لكنّ الانتحار موجود وتنقصنا الأرقام الحقيقيّة وتنقصنا عمليّة الرصد ذات المصداقيّة.

بكلّ الأحوال، إنّ الأرقام الموجودة تظهر أنّ ثمّة ارتفاعًا ولو بصورة طفيفة، علينا أن ندرك أنّه لا يجب أن يكون الرقم كبيرًا كي نعالج موضوع الانتحار، فهذا النوع من الوفاة يمكن منعه لو كان ممكنًا الوصول إلى المريض في الوقت المناسب وتقديم خدمات الصحّة النفسيّة بالشكل الملائم، فنحن نعلم من الخبرة المهنيّة أنّ التدخّل مُجْدٍ جدًّا في حالات الانتحار ويمكن من خلال التدخّلات المهنيّة الحفاظ على حياة الإنسان، وتجنيب الكثير من العائلات فاجعة انتحار أفرادها.

 


 

أنس إبراهيم

 

 

 

كاتب وباحث ومترجم. حاصل على البكالوريوس في «العلوم السياسيّة»، والماجستير في «برنامج الدراسات الإسرائيليّة» من «جامعة بير زيت». ينشر مقالاته في عدّة منابر محلّيّة وعربيّة، في الأدب والسينما والسياسة.